فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (25- 26):

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)}
قوله تعالى: {واستبقا الباب} وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى البرهان قام هارباً مبادراً إلى الباب وتبعته المرأة لتمسك عليه الباب حتى لا يخرج والمسابقة طلب السبق فسبق يوسف وأدركته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه وجذتبه إليها حتى لا يخرج فذلك قوله عز وجل: {وقدت قميصه من دبر} يعني شقته من خلف فغلبها يوسف فخرج وخرجت معه {وألفيا سيدها لدى الباب} يعني فلما خرجا وجدا زوج المرأة قطفير وهو العزيز عند الباب جالساً مع ابن عم المرأة فلما رأته المرأة هابته وخافت التهمة فسبقت يوسف بالقول {قالت} يعني لزوجها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} يعني الفاحشة ثم خافت عليه أن يقتله وذلك لشدة حبها له فقالت {إلا أن يسجن} أي يحبس في السجن ويمنع التصرف {أو عذاب أليم} يعني الضرب بالسياط وإنما بدأ بذكر السجن دون العذاب لأن الحب لا يشتهي إيلام المحبوب وإنما أرادت أن يسجن عندها يوماً أو يومين ولم ترد السجن الطويل وهذه لطيفة فافهمها فلما سمع يوسف مقاتلها أراد أن يبرهن عن نفسه {قال} يعني يوسف {هي راودتني عن نفسي} يعني طلبت مني الفحشاء فأبيت وفررت وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام ما كان يريد أن يذكر هذا القول ولا يهتك سترها ولكن لما قالت هي ما قالت ولطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه فقال هي راودتني عن نفسي {وشهد شاهد من أهلها} يعني وحكم حاكم من أهل المرأة واختلفوا في ذلك الشاهد، فقال سعيد بن جبير والضحاك: كان صبياً في المهد فأنطقه الله عز وجل وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم أربعة وهم صغار ابن ماشطة وابنة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم» ذكره البغوي بغير سند والذي جاء في الصحيحين «ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريج وابن المرأة» وقصتهم مخرجة في الصحيح قيل كان هذا الصبي شاهد يوسف ابن خال المرأة. وقال الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد: لم يكن صبياً ولكنه كان رجلاً حكيماً ذا رأي، وقال السدي: هو ابن عم امرأة فحكم فقال {إن كان قميصه قد من قبل} أي من قدام {فصدقت وهو من الكاذبين}.

.تفسير الآيات (27- 30):

{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)}
{وإن كان قميصه قد من دبر} أي من خلف {فكذبت وهو من الصادقين} وإنما كان هذا الشاهد من أهل المرأة ليكون أقوى من نفي التهمة عن يوسف عليه الصلاة والسلام ونفي التهمة عنه من وجوه منها أنه كان في الظاهر مملوك هذه المرأة والمملوك لا يبسط يديه إلى سيدته ومنها أنهم شاهدوا يوسف يعدو هارباً منها والطالب لا يهرب ومنها أنهم رأوا المرأة قد تزينت بأكمل الوجوه فكان إلحاق التهمة بها أولى ومنها أنهم عرفوا يوسف في المدة الطويلة فلم يروا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذه الحالة فكان مجموع هذه العلامات دلالة على صدقه مع شهادة الشاهد له بصدقه أيضاً {فلما رأى قميصه قد من دبر} يعني فلما رأى قطفير زوج المرأة قميص يوسف عليه الصلاة والسلام قد من خلفه عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف عليه الصلاة والسلام {قال} يعني قال لها زوجها قطفير {إنه} يعني هذا الصنيع {من كيدكن} يعني من حيلكن ومكركن {إن كيدكن عظيم} فإن قلت كيف وصف كيد النساء بالعظيم مع قوله تعالى وخلق الإنسان ضعيفاً وهلا كان مكر الرجال أعظم من مكر النساء.
قلت أما كون الإنسان خلق ضعيفاً فهو بانسبة إلى خلق ما هو أعظم منه كخلق الملائكة والسموات والأرض والجبال ونحو ذلك وأما عظم كيد النساء ومكرهن في هذا الباب فهو أعظم من كيد جميع البشر لأن لهن من المكر والحيل والكيد في إتمام مرادهن ما لا يقدر عليه الرجال في هذا الباب، وقيل: إن قوله إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم من قول الشاهد وذلك أنه لما ثبت عنده خيانة المرأة وبراءة يوسف عليه الصلاة والسلام قال هذه المقالة {يوسف} يعني يا يوسف {أعرض عن هذا} يعني اترك هذا الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يفشو ويشيع وينتشر بين الناس وقيل معناه يا يوسف لا تكترث بهذا الأمر ولا تهتم به فقد بان عذرك وبراءتك ثم التفت إلى المرأة فقال لها {واستغفري لذنبك} يعني توبي إلى الله مما رميت يوسف به من الخطيئة وهو بريء منها وقيل إن هذا من قول الشاهد يقول للمرأة سلي زوجك أن يصفح عنك ولا يعاقبك بسبب ذنبك {إنك كنت من الخاطئين} يعني من المذنبين حين خنت زوجك ورميت يوسف بالتهمة وهو بريء وإنما قال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات تغليباً لجنس الرجال على النساء وقيل إنه لم يقصد به الخبر عن النساء بل قصد الخبر عن كل ما يفعل هذا الفعل تقديره إنك كنت من القوم الخاطئين فهو كقوله وكانت من القانتين.
قوله عز وجل: {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} يعني وقال جماعة من النساء وكنَّ خمساً وقيل كن أربعاً وذلك لما شاع خبر يوسف والمرأة في مدينة مصر وقيل هي مدينة عين الشمس وتحدثت النساء فيما بينهن بذلك وهن امرأة حاجب الملك وامرأة صاحب دوابه وامرأة خبازه وامرأة ساقيه وامرأة صابح سجنه وقيل نسوة من أشراف مصر امرأة العزيز يعني زليخا تراود فتاها عن نفسه يعني تراود عبد ها الكنعاني عن نفسه لأنها تطلب منه الفاحشة وهو يمتنع منها والفتى الشاب الحديث السن {قد شغفها حباً} يعني قد علقها حباً والشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب والمعنى أنه حبه دخل الجلدة حتى أصاب القلب وقيل إن حبه قد أحاط بقلبها كإحاطة الشغاف بالقلب قال الكلبي حجب حبه قلبها حتى لا تعقل شيئاً سواه {إنا لنراها في ضلال مبين} يعني في خطأ بيّن ظاهر حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفاف والستر وأحبت فتاها.

.تفسير الآية رقم (31):

{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)}
{فلما سمعت بمكرهن} يعني فلما سمعت زليخا بقولهن وما تحدثن به إنما سمى قولهن ذلك مكراً لأنهن طلبن بذلك رؤية يوسف وكان وصف لهن حسنه وجماله فقصدن أن يرينه وقيل إن امرأة العزيز أفشت إليهن سرها واستكتمتهن فأفشين ذلك عليها فلذلك سماه مكراً {أرسلت إليهن} يعني أنها لما سمعت بأنهن يلمنها على محبتها ليوسف أرادت أن تقيم عذرها عندهن قال وهب اتخذت مائدة يعني صنعت لهن وليمة وضيافة ودعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهن هؤلاء اللاتي عيرنها {وأعتدت لهن متكأً} يعني ووضعت لهن نمارق ومساند يتكئن عليها، وقال ابن عباس وابن جبير والحسن وقتادة ومجاهد: متكئاً يعني طعاماً وإنما سمي الطعام متكئاً لأن كل من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له وسائد يجلس ويتكئ عليها فسمي الطعام متكأً على الاستعارة ويقال: اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده المتكأ ما يتكأ عليه عند الطعام والشراب والحديث ولذلك جاء النهي عنه في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم «لا آكل متكئاً» وقيل المتكأ الأترج وقيل هو كل شيء يقطع بالسكين أو يحز بها ويقال إن المرأة زينت البيت بألوان الفاكهة والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة اللاتي عيرنها بحب يوسف {وآتت كل واحدة منهن سكيناً} يعني وأعطت كل واحدة من النساء سكيناً لتأكل بها وكان من عادتهم أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين {وقالت اخرج عليهن} يعني وقالت زليخا ليوسف اخرج على النسوة وكان يخاف من مخالفتها فخرج عليهن يوسف وكانت قد زينته واختبأته في مكان آخر {فلما رأينه} يعني النسوة {أكبرنه} يعني أعظمنه ودهشن عند رؤيته وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن، وقال عكرمة: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم وروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي إلى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر» ذكره البغوي بغير سند، وقال إسحاق بن أبي فروة: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران ويقال إنه ورث حسن آدم يوم خلقه الله عز وجل قبل أن يخرج من الجنة وقال أبو العالية هالهن أمره وبهتن إليه وفي رواية عن ابن عباس قال أكبرنه أي حضن ونحوه، عن مجاهد والضحاك قال: حضن من الفرج وأنكر أكثر أهل اللغة هذا القول. قال الزجاج: هذه اللفظة ليست معروفة في اللغة والهاء في أكبرنه تمنع من هذا لأنه لا يجوز أن يقال النساء قد حضنه لأن حضن لا يتعدى إلى مفعول قال الأزهري إن صحت هذه اللفظة فلها مخرج وذلك أن المرأة إذا حاضت أول ما تحيض فقد خرجت من حد الصغار إلى حد الكبار فيقال لها أكبرت أي حاضت على هذا المعنى فإن صحت الرواية عن ابن عباس، سلمنا له وجعلنا الهاء في قوله أكبرنه هاء الوقف لا هاء الكناية، وقيل: إن المرأة إذا خافت أو فزعت فربما أسقطت ولدها وتحيض فإن كان ثم حيض فربما كان من فزعهن وما هالهن من أمر يوسف حين رأينه قال الإمام فخر الدين الرازي: وعندي أنه يحتمل وجهاً آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة آثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه مهابة وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهن وكان ذلك الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وأعظمنه ووقع الرعب والمهابة في قلوبهن قال وحمل الآية على هذا الوجه أولى {وقطعن أيديهن} يعني: وجعلن يقطعن أيديهن بالسكاكين التي معهن وهون يحسبن أنهن يقطعن الأترج ولم يجدن الألم لدهشتهن وشغل قلوبهم بيوسف قال مجاهد فما أحسسن إلا بالدم، وقال قتادة: أين أيديهن حتى ألقينها والأصح أنه كان قطعاً من غير إبانة، قال وهب: مات جماعة منهن {وقلن} يعني النسوة {حاش لله ما هذا بشراً} أي معاذ الله أن يكون هذا بشراً {إن هذا إلا ملك كريم} يعني على الله والمقصود من هذا إثبات الحسن العظيم المفرط ليوسف لأنه قد ركز في النفوس أن لا شيء أحسن من الملك فلذلك وصفته بكونه ملكاً وقيل لما كان الملك مطهراً من بواعث الشهوة وجميع الآفات والحوادث التي تحصل للبشر وصفن يوسف بذلك.

.تفسير الآيات (32- 35):

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}
قوله تعالى: {قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} يعني قالت امرأة العزيز للنسوة لما رأين يوسف ودهشن عند رؤيته فذلكن الذي لمتنني في محبته وإنما قالت ذلك لإقامة عذرها عندهن حين قلن إن امرأة العزيز قد شغفها فتاها الكنعاني حباً وإنما قالت فذلكن الذي الخ بعد ما قام من المجلس وذهب وقال صاحب الكشاف قالت فذلكن ولم تقل فهذا وهو حاضر رفعا لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتن به ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن عشقت عبد ها الكنعاني تقول هو ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه ثم إن امرأة العزيز صرحت بما فعلت فقالت {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} يعني فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبته منه وإنما صرحت بذلك لأنها علمت أنه لا ملامة عليه منهن وأنهن قد أصابهن ما أصابها عند رؤيته ثم إن امرأة العزيز قالت {ولئن لم يفعل ما آمره} يعني وإن لم يطاوعني يما دعوته إليه {ليسجنن} أي ليعاقبن بالسجن والحبس {وليكوناً من الصاغرين} يعني: من الأذلاء المهانين فقال النسوة ليوسف أطع مولاتك فيما دعتك إليه فاختار يوسف السجن على المعصية حين توعدته المرأة بذلك {قال رب} أي يا رب {السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} قيل: إن الدعاء كان منها خاصة وإنما أضافه إليهن جميعاً خروجاً من التصريح إلى العريض، وقيل: إنهن جميعاً دعونه إلى أنفسهن، وقيل: إنهن لما قلن له أطع مولاتك صحت إفاضة الدعاء إليهن جميعاً أو لأنه كان بحضرتهن قال بعضهم أو لم يقل السجن أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله العافية {وإلا تصرف عني كيدهن} يعني ما أردن مني {أصب إليهن} أي أمل إليهن يقال صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه {وأكن من الجاهلين} يعني من المذنبين وقيل معناه أكن ممن يستحق صفة الذم بالجهل، وفيه دليل على أن من ارتكب ذنباً إنما يرتكبه عن جهالة {فاستجاب له ربه} يعني فأجاب الله تعالى دعاء يوسف {فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع} يعني لدعاء يوسف وغيره {العليم} يعني بحاله وفي الآية دليل على أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أظلته البلية بكيد النساء ومطالبتهن إياه بما لا يليق بحاله لجأ إلى الله وفزع إلى الدعاء رغبة إلى الله ليكشف عنه ما نزل به من ذلك الأمر مع الاعتراف بأنه إن لم يعصمه من المعصية وقع فيها فدل ذلك على أنه لا يقدر أحد عن الانصراف عن المعصية إلا بعصمة الله ولطفه به.
قوله عز وجل: {ثم بدا لهم} يعني للعزيز وأصحابه في الرأي وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا من أمر يوسف على الإعراض وكتم الحال وذلك أن المرأة قالت لزوجها إن ذلك العبد العبراني قد فضحني عند الناس يخبرهم بأني قد راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر إلى الناس وإما أنت تحبسه فرأى حبسه {من بعد ما رأوا الآيات} يعني الدالة على صدق يوسف وبراءته من قد القميص وكلام الطفل وقطع النساء أيديهن وذهاب عقولهن عند رؤيته {ليسجننه} أي ليحبسن يوسف في السجن {حتى حين} يعني إلى مدة يرون رأيهم فيها، وقال عطاء: إلى أن تنقطع مقالة الناس، وقال عكرمة: إلى سبع سنين، وقال الكلبي: خمس سنين فحبسه، قال السدي: جعل الله ذلك الحبس تطهيراً ليوسف من همه بالمرأة.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
{ودخل معه السجن فتيان} وهما غلامان كانا للوليد بن شروان العمليق ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه وصاحب طعامه والآخر ساقيه وصاحب شرابه وكان قد غضب عليهما الملك فحبسهما، وكان السبب في ذلك أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله وقتله فمضنوا لهذين الغالمين مالاً على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم وقال الخباز لا تشرب فإن الشراب مسموم فقال للساقي اشرب فشربه فلم يضره وقال للخباز كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما مع يوسف وكان يوسف لما دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول إني أعبر الأحلام فقال أحد الغلامين لصاحبه هلم فلنجرب هذا الغلام العبراني فتراءيا له فسألاه من غير أن يكونا قد رأيا شيئاً قال ابن مسعود ما رأيا شيئاً إنما تحالما ليجربا يوسف وقال بل كانا قد رأيا رؤيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكرا أنهما غلامان للملك وقد حبسهما وقد رأيا رؤيا قد غمتهما فقال يوسف قصا علي ما رأيتما فقصا عليه ما رأياه ذلك قوله تعالى: {قال أحدهما} وهو صاحب شراب الملك {إني أرأني أعصر خمراً} يعني عنباً سمي العنب خمراً باسم ما يؤول إليه يقال فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن حتى يصير آجراً، وقيل: الخمر العنب بلغة عمان وذلك أنه قال إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد عنب فجنيتها وكان كأس الملك في يدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه {وقال الآخر} وهو صاحب طعام الملك {إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه} وذلك أنه قال إني رأيت في المنام كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منها {نبئنا بتأويله} أي أخبرنا بتفسير ما رأينا وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا {إنا نراك من المحسنين} يعني من العالمين بعبارة الرؤيا والإحسان هنا بمعنى العلم، وسئل الضحاك ما كان إحسانه فقال: كان إذا مرض إنسان في الحبس عاده وقام عليه وإذا ضاق على أحد وسع عليه وإذا احتاج أحد جمع له شيئاً مع هذا يجتهد في العبادة يصوم النهار ويقوم الليل كله للصلاة. وقيل: إنه لما دخل السجن وجد فيه قوماً اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسليهم ويقول إصبروا وأبشروا فقالوا بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أين أنت قال أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبرايهم فقال له صاحب السجن يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ولكن سأرفق بك وأحسن جوارك واختر أي بيوت السجن شئت وقيل إن الفتيين لما رأيا يوسف قالا إنا قد أحببناك منذ رأيناك فقال لهما يوسف أنشدكما بالله أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من ذلك بلاء وأحبني أبي فألقيت في الجب وأحبتني امرأة العزيز فحبست فلما قصا عليه رؤياهما كره يوسَف أن يعبرها لهما حين سألاه لما علم ما في ذلك من المكروه لأحدهما وأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والنبوة والدعاء إلى التوحيد وقيل إنه عليه السلام راد أن يبين لهما أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدا فيه وذلك أنهما طلبا منه علم التعبير ولا شك إن هذا العلم مبني على الظن والتخمين فأراد أن يعلمهما أنه يمكنه الإخبار عن المغيبات على سبيل القطع واليقين وذلك مما يعجز الخلق عنه وإذا قدر على الإخبار عن الغيوب كان أقدر على تعبير الرؤيا بطريق الأولى. وقيل: إنما عدل عن تعبير رؤياهما إلى إظهار المعجزة لأنه علم أن أحدهما سيصلب فأراد أن يدخله في الإسلام ويخلصه من الكفر ودخول النار فأظهر له المعجزة لهذا السبب.